-A +A
عبده خال
الحياة حكاية يمر بها الإنسان ليؤكد أنه عاش في لحظات إدراك، ثم يمضي إلى الغياب، ومع ذلك هو موجود في كل نقاط الزمن الماضية واللاحقة.

أحياناً نكتب الحياة بأفعال تدون في سجل ضخم، وأحياناً نتلفظ بألفاظ تظل هواء ما لم تحدث فعلاً، وعند أحداث الفعل يتم التدوين، ولازلت في محاولات حثيثة لإيجاد الذات بين عالمين: مدون وشفوي.


كتبت كثيراً بانتمائي للحكاية الشعبية، فهي أول المدارس التي التحقت بها جلوساً أمام (حكاءة) تسهب في استجلاب الخيال وتقربه من الواقع بما يغرس في أذهاننا، ذلك الجلوس يستوجب الإصغاء الجيد لكل ما تقوله.. وربما كانت هذه البداية الأولى لمعرفة أثر الحكاية على الحضور.. ومنذ ذلك الزمن وأنا أحاول الإمساك بسر الحكاية.. سر أن تتحدث نفس معلقة بالخيال وعلى الجميع الإصغاء.

هل للحكاية جن أو ملائكة حتى يغدو السامع قطعة من متعة تسيل اشتهاء وعسلاً بتدفق الحكاية،

هو سؤال يقف بين اللهاة والشهقة، ربما عشت ردحاً من زمن الغياب في معضلة وجودية، ولازلت معلقاً بها.

في طفولتي تلك كنت لا أريد سوى تتبع الأحداث وكأنها القناة (الفنية) التي تجري بها الحياة إلى مصبها الأخير.

وعندما (فتحت الخط) في التدوين بدأت أتتلمذ على الحكاية المكتوبة، وظللت سارداً في متعة المكتوب، إلا أن عالمي: الشفوي، والمكتوب بينهما مساحات كبيرة يسكنها الفراغ.

فالانتقال من الشفوي إلى المكتوب أحدث فوارق مهولة وأثر على الحكاية في معطياتها الدلالية؟ وحركيتها المتسارعة.

فالحكاية الشعبية لها تقنيات مختلفة عن المكتوب.. فالسرد الشعبي حر، طليق بينما المكتوب كائن سجين.

وعلى المتلقي أن يكون عالماً بالاختلافات الجوهرية في سرد الحدث بين الصياغتين.

فالشفوي جاذب للسمع، والمقروء جاذب للبصر وبين السرعتين تختلف المتعة.. كما هو حادث بين الرواية المكتوبة والفيلم السينمائي المأخوذ منها أو عنها.

في فترة سابقة نشطت الأندية الأدبية في الاحتفاء بالقصة وأقيمت الأمسيات المتعددة وفي كل أمسية قصصية تظهر الفروقات بين المسموع والمكتوب.

وإن كانت تلك الأمسيات ملتزمة بالمكتوب، والمتدرب على سماع الحكايات الشفوية يضيق ذرعاً بما يقال لأن السارد مثل من يحمل بطيختين بيد واحدة، هو يريد إسماعك قصته إلا أنه متورط في المكتوب، والنجاح مرتهن بالمقدرة التمثيلية للقاص بحيث يستعير جزءا من أدوات السارد الشفوي.

وأهم مميزات السرد الشفوي:

- الإعادة المستمرة للزمات تكون فاصلة الانتقال من حدث لآخر.

- إدماج الحكاء كل الحواس أثناء السرد من يد، وعين، وحركة جسد، وتلوين صوت، وتمثيل حالة الحدث تهويلاً أو خضوعاً.

- مشاركة المستمع في الحكي استدراكاً أو مضيفاً، أو مستفسراً.

متعة الحكي تختلف باختلاف الزمان والمكان أثناء قراءة الحكاية المكتوبة بينما الحكاية الشعبية اتخذت من الليل سكنى لها، عادة لا يقتعد لسماع الحكاية إلا ليلاً.

- نفسية الحكاء الشعبي تؤثر في السرد إيجاباً أو سلباً وكذلك نفسية المستمعين، فأي منهما يجري الكدر في داخله، تتباطأ حالة السرد كمؤشر لضيق نفسية أي منهما.

- وفي الحكاية الشعبية يتم إضافة أحداث، أو إلغاء أحداث.

- كل سارد لحكاية شعبية يضيف ويحذف.. قد تكون هذه أهم سمات الحكاية الشعبية بينما القصة المكتوبة تحفل بجوانب أخرى.

- بعد الانتهاء من كتابة الحكاية تمنع عنها الحذف أو الإضافة إذ تكون في حالة اكتمال.

- وكلما كان أسلوب الكتابة متقدماً صعب على القارئ التواصل الحقيقي مع الحدث.

- القصة المكتوبة لا يعود لدى السامع فرصة التغير والتبديل بل يمنحها بعداً من مخيلته.

- كما أن القصة المكتوبة تحاول التوسط بين المكتوب والشفوي عند سردها من قبل القارئ وهنا يحدث انتصار للشفوي مقابل المكتوب... ونجد أن الذات تتنهزه بين العالمين كما يحلو لها من غير الاحتزام بالفوارق بين العمليتين.

إن صياغة الأحداث المكتوبة والشفوية بحاجة إلى مصفاة لتكرير ما تساقط هنا أو هناك، فالحكاية في الحالتين سقط منها شيء لا يستعيده الزمن حتى لو كان (للقارئ أو المستمع) مخيلة فذة، فما تنتجه المخيلة يكون فائضاً ليس من أصل الحكاية.

هل أستطيع القول إننا حكايات ناقصة؟

وقبل ذلك أين الإدراك الحقيقي في انتقالك من المكتوب إلى الشفوي إذا دونت الحالتين؟

أزمة الوجودية ليست في تركك حر التصرف، فالأزمة الإنسانية إن كنت حراً بحثت عن قيد، وإن كنت مقيداً بحثت عن الانطلاق.

الحياة حكاية لم تكتمل بالرغم من مرور آلاف السنوات، وستمضي متقلبة بين الشفوي والمكتوب.